لبنان أولًا وغزة لاحقًا- إسرائيل توزّع ملفات الحرب والسلام على الإدارات الأميركية.

يبدو أن الحكومة الإسرائيلية قد اتخذت قرارًا استراتيجيًا بتقسيم ملفات الحرب والسلام بين لبنان وغزة، وتوزيعها على الإدارتين الأمريكيتين، الحالية والقادمة. فلبنان يحظى بأولوية متقدمة على أجندة الإدارة الأمريكية المنصرفة، وكذلك على أجندات واشنطن وباريس وعواصم المجتمع الدولي. بينما ملف حرب الإبادة والتطهير المستمرة على غزة منذ أربعة عشر شهرًا، فقد تُرك لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وفريقه.
وقد وافقت الحكومة الإسرائيلية رسميًا على مشروع "وقف الأعمال العدائية والحربية" الذي رعته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن بالتعاون مع فرنسا، في الوقت الراهن.
لماذا يتم تفضيل "لبنان أولًا"؟
هناك شبه إجماع بين مختلف الأحزاب المكونة للائتلاف الحكومي برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على القبول بالاتفاق المتعلق بلبنان. حتى أن أكثر الوزراء تطرفًا، مثل بتسلئيل سموتريتش، لم يهدد بالانسحاب من الحكومة، على عكس ما كان يفعله في كل مرة تتعلق بمفاوضات التهدئة على جبهة غزة.
يكمن السبب وراء هذا التوجه في اختلاف الأهداف المتوخاة من الحرب على لبنان، عن الأهداف المرجوة من الحرب على غزة. ففي الحالة اللبنانية، تستطيع إسرائيل أن تتعايش مع سقف أكثر تواضعًا لتوقعاتها وأهدافها، كأن ترضى بانسحاب مقاتلي حزب الله وأسلحته إلى شمال نهر الليطاني، مع تشديد الرقابة على هذه العملية، بالإضافة إلى إحكام الخناق على مصادر تسليح الحزب، وخاصة من سوريا وعبرها.
أما في الحالة الفلسطينية، وتحديدًا في غزة، فالوضع أكثر تعقيدًا وتشابكًا، ويتصل بشكل مباشر بمستقبل إسرائيل وفلسطين على حد سواء، وهذا ما يجعلها قضية معقدة للغاية.
صحيح أن إسرائيل، مدفوعة بالنجاحات الأولية التي حققتها في بداية حربها على حزب الله، قد رفعت سقف طموحاتها وأهدافها، لتصل إلى حد تدمير الحزب بالكامل، وتجريده من سلاحه، وإعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني، بهدف إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط بأسرها، والحفاظ على حرية التحرك العسكري في الأجواء والأراضي اللبنانية.
لكن الصحيح أيضًا، أن هذه الأحلام سرعان ما تلاشت بعد أن تمكن حزب الله من ترميم صفوفه القيادية، واستيعاب الضربات الموجعة التي تلقاها، واستئناف إطلاق الصواريخ المتنوعة، التي تطال عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك تل أبيب وضواحيها الجنوبية، فضلًا عن المواجهات العنيفة في بلدات وقرى الشريط الحدودي. ونتيجة لذلك، بات الهدف الأساسي هو العودة إلى تطبيق القرار الأممي رقم 1701، ولكن بمستوى أعلى من الرقابة والتنفيذ هذه المرة.
علاوة على ذلك، فإن لبنان، على عكس غزة، يُعد دولة مستقلة ذات سيادة، ويتمتع بشبكة واسعة من العلاقات مع حكومات غربية وعربية. ويعتبر بقاء لبنان كيانًا سياسيًا قائمًا، مصلحة عليا للعديد من هذه الدول والعواصم، في حين أن مصير غزة، أرضًا وشعبًا وقضية، لا يزال مطروحًا على طاولة المفاوضات، وأن نتائج الحرب الدائرة عليها، مرتبطة بشكل وثيق بحسم مختلف الملفات والقضايا العالقة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
بإمكان إسرائيل أن تكتفي بالنتائج التي حققتها على الجبهة اللبنانية، على الأقل بهدف تجنب التكاليف الباهظة المتوقعة، في ظل استعادة المقاومة لقوتها وفاعليتها. في المقابل، تطالب إسرائيل بأثمان باهظة في غزة، تتجاوز حدود القطاع لتطال الضفة الغربية والقدس ومستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية.
أدركت إدارة بايدن المنتهية ولايتها، مدى تعقيد الموقف الإسرائيلي من الحرب على الجبهة الجنوبية، لذلك فضلت ترك هذا الملف الشائك للإدارة الأمريكية القادمة برئاسة دونالد ترامب، وركزت جهودها بشكل كامل على الجبهة الشمالية، على أمل تحقيق "إنجاز ما" في اللحظات الأخيرة من ولايتها. وهذا تحديدًا ما قصده الرئيس بايدن عندما صرح بأن إدارته تولي لبنان أولوية قصوى.
ويبدو أن هذا التوجه قد لاقى ترحيبًا من الرئيس المنتخب آنذاك دونالد ترامب، حتى وهو منهمك في تشكيل إدارته الجديدة، فسارع إلى منح المبعوث الرئاسي الأمريكي آموس هوكستين، الضوء الأخضر للمضي قدمًا في مهمته والتحدث باسم الإدارتين معًا، الحالية والمنتهية. الأمر الذي عزز من مكانة ونفوذ المبعوث، الذي زار المنطقة عدة مرات دون تحقيق نتائج ملموسة في السابق.
في المقابل، يعيش لبنان تحت وطأة ضغوط عدوان شرس، خلف خسائر إنسانية فادحة، خاصة في مناطق نفوذ حزب الله، حيث فاق حجم الدمار الذي لحق بقرى الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، ما خلفته حرب تموز 2006 بأضعاف مضاعفة.
كما أن حزب الله، الذي فقد العديد من قادته البارزين، بات في أمس الحاجة لالتقاط أنفاسه والتعامل مع متطلبات ما بعد الحرب المدمرة. ولعل هذا ما يفسر قبول الحزب بأمور لم يكن ليقبل بها في السابق، وعلى رأسها فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، والالتزام ببنود القرار 1701 بشكل أكثر جدية مما كان عليه الحال خلال الفترة الممتدة من عام 2006 وحتى اليوم.
وهناك إجماع لبناني نادر على ضرورة وقف العدوان المدمر على البلاد. وقد تولى نبيه بري، رئيس مجلس النواب، وهو أحد أركان "الثنائي الشيعي" وحليف حزب الله، مهمة إدارة المفاوضات نيابة عن الحزب والمقاومة، على عكس حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، اللتين لم تجدا شخصية لبنانية تتولى مهمة التنسيق والدفاع عن مصالحهما.
هذا التباين، أجبر حركة حماس على الاعتماد بشكل كامل على "ثلاثي الوساطة"، دون أن تجد في المؤسسة الرسمية من هو على استعداد للتعبير عن مواقفها والدفاع عن حقوق شعبها.
وثمة مؤشرات قوية تدل على أن أطرافًا دولية أخرى قد انضمت إلى جهود الوساطة والمساعي الحميدة مع الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، بهدف تذليل "عقد نتنياهو" التي حالت دون ترجمة المبادرة الأمريكية الفرنسية في سبتمبر الماضي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنباء شبه مؤكدة، تفيد بأن موسكو أبلغت رون ديرمر، الذي زارها سرًا، عن استعدادها للتعاون مع تل أبيب في دمشق، لكبح عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله، سواء تلك التي تأتي مباشرة من طهران، أو تلك التي تُصنع في سوريا، ويخصص جزء منها للحزب والفصائل المقربة من إيران.
ولعل الكشف مؤخرًا، عن رفض مطار حميميم في اللاذقية، الخاضع لسيطرة القوات الروسية، استقبال طائرة إيرانية، يُعتقد أنها كانت محملة بالأسلحة، هو بمثابة إشارة أولية على وجود تفاهمات جديدة بين موسكو وتل أبيب.
وبحسب مصادر مطلعة، فقد عرض ديرمر على روسيا، استعداد إسرائيل لتفعيل نفوذها وعلاقاتها مع ترامب وأركان إدارته، ومؤسسات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، لتحسين العلاقات المتوترة بين البلدين، والتي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة، والدفع باتجاه إيجاد حل للأزمة الأوكرانية يكون مقبولًا للكرملين.
وعلى الرغم من أن هذه التفاهمات الأولية لم تتحول إلى "اتفاق رسمي" بين الطرفين، فإن بوادر هذه التوافقات بدأت تظهر في الأفق. ويجب أن نتذكر هنا أن التفاهمات التي تم التوصل إليها بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن سوريا، كانت لها مفعول "الاتفاقات الرسمية الموقعة"، على الرغم من طابعها الشفهي، وقد صمدت في وجه مختلف الظروف، حيث لم يتم إطلاق صاروخ روسي واحد على طائرة إسرائيلية، حتى عندما كانت تضرب أهدافًا تبعد كيلومترًا واحدًا عن أهم قواعد الجيش الروسي المنتشرة في سوريا.
أما مسألة الرفض الإسرائيلي لأي دور فرنسي في الوساطة أو الإشراف على الاتفاق بشأن لبنان، فقد تم حلها من خلال اتصالات مكثفة بين باريس وواشنطن، انتهت بتراجع باريس خطوة إلى الوراء، وإعادة إدراج موقفها من قرارات "الجنائية الدولية" بالقبض على نتنياهو وغالانت في إطار قانوني بحت، بعيدًا عن أي محتوى سياسي. وهو الأمر الذي اعتبرته تل أبيب بمثابة تراجع عن مواقف "معادية لها"، وسمح لنتنياهو بالقبول بدور فرنسي في إطار "خماسية" الإشراف على تنفيذ القرار 1701.
إذًا، فقد توفرت للبنان عوامل دفع قوية نحو إنجاز اتفاق لوقف إطلاق النار والأعمال العدائية، لم تتوفر لغزة وشعبها ومقاومتها. ومن المرجح أن تستمر فصول الحرب على غزة، وأن يتم تأجيل جهود الوساطة ومبادرات التسوية إلى حين استلام الرئيس ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، وبلورة خطة أمريكية جديدة، لا تأخذ في الاعتبار الوضع في القطاع المحاصر والمدمر فحسب، بل ربما مستقبل القضية الفلسطينية بأكملها.
وها هي الشائعات تتوالى حول استعدادات لـ "صفقة القرن 2"، بمواصفات اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي بات أكثر تعطشًا اليوم لابتلاع الضفة الغربية بأكملها أو المنطقة (ج) منها. وستكشف الأسابيع والأشهر القليلة القادمة المزيد من الحقائق.